الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* وَقَالَ قَتَادَةُ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةُ السُّنَّةُ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي فَقَالَ إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ قَالَتْ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ قَالَتْ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا إِلَى أَجْرًا عَظِيمًا قَالَتْ فَقُلْتُ فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ قَالَتْ ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُ تَابَعَهُ مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَبُو سُفْيَانَ الْمَعْمَرِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ الشرح: قوله: (باب قوله: وإن كنتن تردن الله ورسوله) ساقوا كلهم الآية إلى (عظيما) . قوله: (وقال قتادة: واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة، القرآن والسنة) وصله ابن أبي حاتم من طريق معمر عن قتادة بلفظ " من آيات الله والحكمة، القرآن والسنة " أورده بصورة اللف والنشر المرتب، وكذا هو في تفسير عبد الرزاق. قوله: (وقال الليث: حدثني يونس) وصله الذهلي عن أبي صالح عنه، وأخرجه ابن جرير والنسائي والإسماعيلي من رواية ابن وهب عن يونس كذلك. قوله: (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه) ورد في سبب هذا التخيير ما أخرجه مسلم من حديث جابر قال: " دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: " من حولي كما ترى يسألنني النفقة " يعني نساءه، وفيه أنه اعتزلهن شهرا ثم نزلت عليه هذه الآية (يا أيها النبي قل لأزواجك: - حتى بلغ - أجرا عظيما) قال: فبدأ بعائشة فذكر نحو حديث الباب، وقد تقدم في المظالم من طريق عقيل ويأتي في النكاح أيضا من طريق شعيب كلاهما عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس عن عمر في قصة المرأتين اللتين تظاهرتا بطوله وفي آخره: " حين أفشته حفصة إلى عائشة " وكان قد قال: ما أنا بداخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله، فلما مضت تسع وعشرون دخل على عائشة فبدأ بها، فقالت له: إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا، وقد أصبحنا لتسع وعشرين ليلة أعدها عدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الشهر تسع وعشرون. وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين. قالت عائشة: " فأنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول امرأة فقال: إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن لا تعجلي " الحديث. وهذا السياق ظاهره أن الحديث كله من رواية ابن عباس عن عمر، وأما المروي عن عائشة فمن رواية ابن عباس عنها، وقد وقع التصريح بذلك فيما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق أبي صالح عن الليث بهذا الإسناد إلى ابن عباس قال: " قالت عائشة: أنزلت آية التخيير، فبدأ بي " الحديث. لكن أخرج مسلم الحديث من رواية معمر عن الزهري ففصله تفصيلا حسنا، وذلك أنه أخرجه بطوله إلى آخر قصة عمر في المتظاهرتين إلى قوله: " حتى عاتبه " ثم عقبه بقوله: " قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة قالت: لما مضى تسع وعشرون " فذكر مراجعتها في ذلك ثم عقبه بقوله: " قال: يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك " الحديث. فعرف من هذا أن قوله: " فلما مضت تسع وعشرون إلخ " في رواية عقيل هو من رواية الزهري عن عائشة بحذف الواسطة، ولعل ذلك وقع عن عمد من أجل الاختلاف على الزهري في الواسطة بينه وبين عائشة في هذه القصة بعينها كما بينه المصنف هنا، وكأن من أدرجه في رواية ابن عباس مشى على ظاهر السياق ولم يفطن للتفصيل الذي وقع في رواية معمر، وقد أخرج مسلم أيضا من طريق سماك بن الوليد عن ابن عباس " حدثني عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل النبي نساءه دخلت المسجد " الحديث بطوله وفي آخره " قال: وأنزل الله آية التخيير " فاتفق الحديثان على أن آية التخيير نزلت عقب فراغ الشهر الذي اعتزلهن فيه، ووقع ذلك صريحا في رواية عمرة عن عائشة قالت: " لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم إلى نسائه أمر أن يخيرهن " الحديث أخرجه الطبري والطحاوي، واختلف الحديثان في سبب الاعتزال، ويمكن الجمع بأن يكون القضيتان جميعا سبب الاعتزال فإن قصة المتظاهرتين خاصة بهما، وقصة سؤال النفقة عامة في جميع النسوة، ومناسبة آية التخيير بقصة سؤال النفقة أليق منها بقصة المتظاهرتين، وسيأتي في " باب من خير نساءه " من كتاب الطلاق بيان الحكم فيمن خيرها زوجها إن شاء الله تعالى. وقال الماوردي: اختلف هل كان التخيير بين الدنيا والآخرة أو بين الطلاق والإقامة عنده؟ على قولين للعلماء أشبههما بقول الشافعي الثاني، ثم قال: إنه الصحيح. وكذا قال القرطبي: اختلف في التخيير هل كان في البقاء والطلاق أو كان بين الدنيا والآخرة انتهى. والذي يظهر الجمع بين القولين، لأن أحد الأمرين ملزوم للآخر، وكأنهن خيرن بين الدنيا فيطلقهن وبين الآخرة فيمسكهن، وهو مقتضى سياق الآية. ثم ظهر لي أن محل القولين هل فوض إليهن الطلاق أم لا؟ ولهذا أخرج أحمد عن علي قال: " لم يخير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة". قوله: (فلا عليك أن لا تعجلي) أي فلا بأس عليك في التأني وعدم العجلة حتى تشاوري أبويك. قوله: (حتى تستأمري أبويك) أي تطلبي منهما أن يبينا لك رأيهما في ذلك. ووقع في حديث جابر " حتى تستشيري أبويك " زاد محمد بن عمرو عن أبي سلمه عن عائشة " إني عارض عليك أمرا فلا تفتاتي فيه بشيء حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان " أخرجه أحمد والطبري، ويستقاد منه أن أم رومان كانت يومئذ موجودة، فيرد به على من زعم أنها ماتت سنة ست من الهجرة، فإن التخيير كان في سنة تسع. قوله: (قالت: فقلت: ففي أي هذا أستأمر أبوي) ؟ في رواية محمد بن عمرو " فقلت: فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ولا أؤامر أبوي أبا بكر وأم رومان، فضحك " وفي رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه عند الطبري " ففرح". قوله: (ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت) في رواية عقيل " ثم خير نساءه فقلن مثل ما قالت عائشة " زاد ابن وهب عن يونس في روايته " فلم يكن ذلك طلاقا حين قاله لهن فاخترنه " أخرجه الطبري. وفي رواية محمد بن عمرو المذكورة " ثم استقرى الحجر - يعني حجر أزواجه - فقال: إن عائشة قالت كذا، فقلن: ونحن نقول مثل ما قالت". وقوله: " استقرى الحجر " أي تتبع، والحجر- بضم المهملة وفتح الجيم - جمع حجرة بضم ثم سكون، والمراد مساكن أزواجه صلى الله عليه وسلم، وفي حديث جابر المذكور أن عائشة لما قالت: " بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة " قالت: " يا رسول الله وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، فقال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني متعنتا وإنما بعثني معلما ميسرا". وفي رواية معمر عند مسلم " قال معمر: فأخبرني أيوب أن عائشة قالت: لا تخبر نساءك أني اخترتك، فقال: إن الله أرسلني مبلغا ولم يرسلني متعنتا " وهذا منقطع بين أيوب وعائشة، ويشهد لصحته حديث جابر والله أعلم. وفي الحديث ملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه وحلمه عنهن وصبره على ما كان يصدر منهم من إدلال وغيره مما يبعثه عليهن الغيرة. وفيه فضل عائشة لبداءته بها، كذا قرره النووي، لكن روى ابن مردويه من طريق الحسن عن عائشة أنها طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبا، فأمر الله نبيه أن يخير نساءه: أما عند الله تردن أم الدنيا؟ فإن ثبت هذا وكانت هي السبب في التخيير فلعل البداءة بها لذلك، لكن الحسن لم يسمع من عائشة فهو ضعيف، وحديث جابر في أن النسوة كن يسألنه النفقة أصح طريقا منه، وإذا تقرر أن السبب لم يتحد فيها وقدمت في التخيير دل على المراد، لا سيما مع تقديمه لها أيضا في البداءة بها في الدخول عليها. وفيه أن صغر السن مظنة لنقص الرأي، قال العلماء: إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تستأمر أبويها خشية أن يحملها صغر السن على اختيار الشق الآخر، لاحتمال أن لا يكون عندها من الملكة ما يدفع ذلك العارض، فإذا استشارت أبويها أوضحا لها ما في ذلك من المفسدة وما في مقابله من المصلحة، ولهذا لما فطنت عائشة لذلك قالت: " قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه " ووقع في رواية عمرة عن عائشة في هذه القصة " وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثتي " وهذا شاهل للتأويل المذكور، وفيه منقبة عظيمة لعائشة وبيان كمال عقلها وصحة رأيها مع صغر سنها، وأن الغيرة تحمل المرأة الكاملة الرأي والعقل على ارتكاب ما لا يليق بحالها لسؤالها النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يخبر أحدا من أزواجه بفعلها، ولكنه صلى الله عليه وسلم لما علم أن الحامل لها على ذلك ما طبع عليه النساء من الغيرة ومحبة الاستبداد دون ضرائرها لم يسعفها بما طلبت من ذلك. (تنبيه) : وقع في النهاية والوسيط التصريح بأن عائشة أرادت أن يختار نساؤه الفراق، فإن كانا ذكراه فيما فهماه من السياق فذاك وإلا فلم أر في شيء من طرق الحديث التصريح بذلك، وذكر بعض العلماء أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم تخيير أزواجه واستند إلى هذه القصة، ولا دلالة فيها على الاختصاص. نعم ادعى بعض من قال: إن التخيير طلاق أنه في حق الأمة، واختص هو صلى الله عليه وسلم بأن ذلك في حقه ليس بطلاق، وسيأتي مزيد بيان لذلك في كتاب الطلاق إن شاء تعالى. واستدل به بعضهم على ضعف ما جاء أن من الأزواج حينئذ من اختارت الدنيا فتزوجها وهي فاطمة بنت الضحاك لعموم قوله: ثم فعل إلخ. قوله: (تابعه موسى بن أعين عن معمر عن الزهري أخبرني أبو سلمة) يعني عن عائشة، وصل النسائي من طريق محمد بن موسى بن أعين حدثنا أبي فذكره. قوله: (وقال عبد الرزاق وأبو سفيان المعمري عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة) ما رواية عبد الرزاق فوصلها مسلم وابن ماجه من طريقه، وأخرجها أحمد وإسحاق في مسنديهما عنه، وقصر من قصر تخريجها على ابن ماجه. وأما رواية أبي سفيان المعمري فأخرجها الذهلي في الزهريات وتابع معمرا على عروة جعفر بن برقان، ولعل الحديث كان عند الزهري عنهما فحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، وإلى هذا مال الترمذي. وقد رواه عقيل وشعب عن الزهري عن عائشة بغير واسطة كما قدمته، والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) لم تختلف الروايات أنها نزلت في قصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الشرح: قوله: (حدثنا معلى بن منصور) هو الرازي، وليس له عند البخاري سوى هذا الحديث وآخر في البيوع، وقد قال في " التاريخ الصغير ": دخلنا عليه سنة عشر، فكأنه لم يكثر عنه ولهذا حدث عنه في هذين الموضعين بواسطة. قوله: (حدثنا ثابت) كذا قال معلى بن منصور عن حماد، وتابعه محمد بن أبي بكر المقدمي وعارم وغيرهما. وقال الصلت بن مسعود وروح بن عبد المؤمن وغيرهما: " عن حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس " فلعل لحماد فيه إسنادين. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق سليمان بن أيوب صاحب البصري عن حماد بن زيد بالإسنادين معا. قوله: (إن هذه الآية وأخرجه أحمد عن مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن زيد بهذا الإسناد بلفظ " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل زيد بن حارثة فجاءه زيد يشكوها إليه، فقال له: أمسك عليك زوجك واتق الله، فنزلت إلى قوله: (زوجناكها) قال: يعني زينب بنت جحش". وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السدي فساقها سياقا واضحا حسنا ولفظه " بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه، ثم أعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بعد أنها من أزواجه فكان يستحي أن يأمر بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه وأن يتقي الله، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا تزوج امرأة ابنه، وكان قد تبنى زيدا". وعنده من طريق علي بن زيد عن علي بن الحصين بن علي قال: أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه وقال له: اتق الله وأمسك عليك زوجك قال الله: قد أخبرتك أني مزوجكها، وتخفي في نفسك ما الله مبديه. وقد أطنب الترمذي الحكيم في تحسين هذه الرواية وقال: إنها من جواهر العلم المكنون. وكأنه لم يقف على تفسير السدي الذي أوردته، وهو أوضح سياقا وأصح إسنادا إليه لضعف علي بن زيد بن جدعان. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: جاء زيد بن حارثة فقال: يا رسول الله إن زينب اشتد علي لسانها، وأنا أريد أن أطلقها، فقال له: اتق الله وأمسك عليك زوجك، قال: والنبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يطلقها ويخشى قالة الناس. ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري ونقلها كثير من المفسرين لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته منها هو المعتمد. والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلم هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه وهو تزوج امرأة الذي يدعي ابنا. ووقوع ذلك من إمام المسلمين ليكون أدعى لقبولهم. وإنما وقع الخبط في تأويل متعلق الخشية والله أعلم، وقد أخرج الترمذي من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن عائشة قالت: " لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه - يعني بالإسلام - وأنعمت عليه - بالعتق - أمسك عليك زوجك) إلى قوله: (قدرا مقدورا) وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله تعالى قلت: حتى صار رجلا يقال له زيد ابن محمد، فأنزل الله تعالى: (ادعوهم لآبائهم - إلى قوله - ومواليكم) . قال الترمذي: روي عن داود عن الشعبي عن مسروق عن عائشة إلى قوله: " لكتم هذه الآية " ولم يذكر ما بعده. قلت: وهذا القدر أخرجه مسلم كما قال الترمذي، وأظن الزائد بعده مدرجا في الخبر، فإن الراوي له عن داود لم يكن بالحافظ. وقال ابن العربي: إنما قال عليه الصلاة والسلام لزيد: وروى أحمد ومسلم والنسائي من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: " لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: اذكرها علي، قال: فانطلقت فقلت: يا زينب، أبشري، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. فقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليها بغير إذن " وهذا أيضا من أبلغ ما وقع في ذلك، وهو أن يكون الذي كان زوجها هو الخاطب، لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهرا بغير رضاه. وفيه أيضا اختبار ما كان عنده منها هل بقي منه شيء أم لا؟ وفيه استحباب فعل المرأة الاستخارة ودعائها عند الخطبة قبل الإجابة، وأن من وكل أمره إلى الله عز وجل يسر الله له ما هو الأحظ له والأنفع دنيا وأخرى. *3* قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تُرْجِئُ تُؤَخِّرُ أَرْجِئْهُ أَخِّرْهُ الشرح: قوله: (باب قوله: ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء، ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك) كذا للجميع، وسقط لفظ " باب " لغير أبي ذر، وحكى الواحدي عن المفسرين أن هذه الآية نزلت عقب نزول آية التخيير، وذلك أن التخيير لما وقع أشفق بعض الأزواج أن يطلقهن ففوضن أمر القسم إليه، فأنزلت قوله: (قال ابن عباس: ترجي تؤخر) وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به. قوله: (أرجه أخره) هذا من تفسير الأعراف والشعراء، ذكره هنا استطرادا. وقد وصله ابن أبي حاتم أيضا من طريق عطاء عن ابن عباس قال في قوله: (أرجه وأخاه) قال: أخره وأخاه. الحديث: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ هِشَامٌ حَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُولُ أَتَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ قُلْتُ مَا أُرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ الشرح: قوله: (حدثنا زكريا بن يحيى) هو الطائي وقيل: البلخي، وقد تقدم بيان ذلك في العيدين. قوله: (حدثنا أبو أسامة قال هشام: حدثنا) هو من تقديم المخبر على الصيغة وهو جائز. قوله: (كنت أغار) كذا وقع بالغين المعجمة من الغيرة ووقع عند الإسماعيلي من طريق محمد بن بشر عن هشام بن عروة بلفظ " كانت تعير اللاتي وهبن أنفسهن " بعين مهملة وتشديد. قوله: (وهبن أنفسهن) هذا ظاهر في أن الواهبة أكثر من واحدة، ويأتي في النكاح حديث سهل بن سعد " أن امرأة قالت: يا رسول الله، إني وهبت نفسي لك " الحديث، وفيه قصة الرجل الذي طلبها قال: " التمس ولو خاتما من حديد " ومن حديث أنس " أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن لي ابنة - فذكرت من جمالها - فآثرتك بها. فقال: قد قبلتها. فلم تزل تذكر حتى قالت: لم تصدع قط. فقال: لا حاجة لي في ابنتك " وأخرجه أحمد أيضا، وهذه امرأة أخرى بلا شك. وعند ابن أبي حاتم من حديث عائشة: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم هي خولة بنت حكيم، وسيأتي الكلام عليه في كتاب النكاح، فإن البخاري أشار إليه معلقا. ومن طريق الشعبي قال: من الواهبات أم شريك. وأخرجه النسائي من طريق عروة. وعند أبي عبيدة معمر بن المثنى أن من الواهبات فاطمة بنت شريح. وقيل: إن ليلى بنت الحطيم ممن وهبت نفسها له. ومنهن زينب بنت خزيمة، جاء عن الشعبي وليس بثابت، وخولة بنت حكيم وهو في هذا الصحيح. ومن طريق قتادة عن ابن عباس قال: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم هي ميمونة بنت الحارث، وهذا منقطع. وأورده من وجه آخر مرسل وإسناده ضعيف. ويعارضه حديث سماك عن عكرمة عن ابن عباس " لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له " أخرجه الطبري وإسناده حسن، والمواد أنه لم يدخل بواحدة ممن وهبت نفسها له وإن كان مباحا له لأنه راجع إلى إرادته لقوله تعالى. (إنا أراد النبي أن يستنكحها) ، وقد بينت عائشة في هذا الحديث سبب نزول قوله تعالى: وقوله: وأخرج الطبري أيضا عن الشعبي في قوله: وقيل: المراد بقوله: (ترجي من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء) أنه كان هم بطلاق بعضهن، فقلن له لا تطلقنا واقسم لنا ما شئت، فكان يقسم لبعضهن قسما مستويا، وهن اللاتي آواهن، ويقسم للباقي ما شاء وهن اللاتي أرجأهن. فحاصل ما نقل في تأويل (ترجي) أقوال: أحدها تطلق وتمسك، ثانيها: تعتزل من شئت منهن بغير طلاق وتقسم لغيرها، ثالثها: تقبل من شئت من الواهبات وترد من شئت. وحديث الباب يؤيد هذا والذي قبله، واللفظ محتمل للأقوال الثلاثة. وظاهر ما حكته عائشة من استئذانه أنه لم يرج أحدا منهن، بمعنى أنه لم يعتزل، وهو قول الزهري: " ما أعلم أنه أرجأ أحدا من نسائه " أخرجه ابن أبي حاتم، وعن قتادة أطلق له أن يقسم كيف شاء فلم يقسم إلا بالسوية. الحديث: حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ عَنْ مُعَاذَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فَقُلْتُ لَهَا مَا كُنْتِ تَقُولِينَ قَالَتْ كُنْتُ أَقُولُ لَهُ إِنْ كَانَ ذَاكَ إِلَيَّ فَإِنِّي لَا أُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُوثِرَ عَلَيْكَ أَحَدًا تَابَعَهُ عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ سَمِعَ عَاصِمًا الشرح: قوله: (يستأذن المرأة في اليوم) أي الذي يكون فيه نوبتها إذا أراد أن يتوجه إلى الأخرى. قوله: (تابعه عباد بن عباد سمع عاصما) وصله ابن مردويه في تفسيره من طريق يحيي بن معين عن عباد بن عباد، ورويناه في الجزء الثالث من حديث يحيي بن معين رواية أبي بكر المروزي عنه من طريق المصريين إلى المروزي. (تكميل) : اختلف في المنفي في قوله تعالى في الآية التي تلي هذه الآية وهي قوله: (لا تحل لك النساء من بعد) هل المراد بعد الأوصاف المذكورة فكان يحل له صنف دون صنف؟ أو بعد النساء الموجودات عند التخيير؟ على قولين، وإلى الأول ذهب أبي بن كعب ومن وافقه أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند، وإلى الثاني ذهب ابن عباس ومن وافقه وأن ذلك وقع مجازاة لهن على اختيارهن إياه، نعم الواقع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتجدد له تزوج امرأة بعد القصة المذكورة، لكن ذلك لا يرفع الخلاف. وقد روى الترمذي والنسائي عن عائشة " ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء " وأخرج ابن أبي حاتم عن أم سلمة رضي الله عنها مثله. *3* إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا يُقَالُ إِنَاهُ إِدْرَاكُهُ أَنَى يَأْنِي أَنَاةً فَهُوَ آنٍ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا إِذَا وَصَفْتَ صِفَةَ الْمُؤَنَّثِ قُلْتَ قَرِيبَةً وَإِذَا جَعَلْتَهُ ظَرْفًا وَبَدَلًا وَلَمْ تُرِدْ الصِّفَةَ نَزَعْتَ الْهَاءَ مِنْ الْمُؤَنَّثِ وَكَذَلِكَ لَفْظُهَا فِي الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى الشرح: قوله: (باب قوله: لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام - إلى قوله - إن ذلكم كان عند الله عظيما) كذا لأبي ذر والنسفي، وساق غيرهما الآية كلها. قوله: (يقال: إناه إدراكه، أنى يأنى أناة فهو آن) أنى بفتح الألف والنون مقصور، ويأتي بكسر النون، وأناة بفتح الهمزة والنون مخففا وآخره هاء تأنيث بغير مد مصدر، قال أبو عبيدة في قوله: وقرأ الأعمش وحده " آناه " بمد أوله بصيغة الجمع مثل آناء الليل ولكن بغير همز في آخره. قوله: (لعل الساعة تكون قريبا إذا وصفت صفة المؤنث قلت: قريبة، وإذا جعلته ظرفا وبدلا ولم ترد الصفة نزعت الهاء من المؤنث، وكذلك لفظها في الواحد والاثنين والجمع المذكر والأنثى) هكذا وقع هذا الكلام هنا لأبي ذر والنسفي، وسقط لغيرهما وهو أوجه، لأنه وإن اتجه ذكره في هذه السورة لكن ليس هذا محله، وقد قال أبو عبيدة في قوله تعالى: ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ الشرح: أحدها حديث أنس عن عمر قال: " قلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب " وهو طرف من حديث أوله: " وافقت ربي في ثلاث " وقد تقدم بتمامه في أوائل الصلاة وفي تفسير البقرة. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ دَعَا الْقَوْمَ فَطَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ وَإِذَا هُوَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ وَقَعَدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْخُلَ فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقْتُ فَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدْ انْطَلَقُوا فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الْآيَةَ الشرح: ثانيها: حديث أنس في قصة بناء النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ونزول آية الحجاب، أورده من أربعة طرق عن أنس بعضها أتم من بعض، وقوله: " لما أهديت " أي لما زينتها الماشطة وزفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم الصغاني أن الصواب " هديت " بغير ألف، لكن توارد النسخ على إثباتها يرد عليه، ولا مانع من استعمال الهدية في هذا استعارة. قوله: (لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا) في رواية الزهري عن أنس كما سيأتي في الاستئذان قال: " أنا أعلم الناس بشأن الحجاب وكان في مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، أصبح بها عروسا فدعا القوم " وفي رواية أبي قلابة عن أنسى قال: " أنا أعلم الناس بهذه الآية آية الحجاب. لما أهديت زينب بنت جحش إلى النبي صلى الله عليه وسلم صنع طعاما " وفي رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس أنه كان الداعي إلى الطعام قال: " فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، قال: فدعوت حتى ما أجد أحدا " وفي رواية حميد " فأشبع المسلمين خبزا ولحما " ووقع في رواية الجعد بن عثمان عن أنس عند مسلم، وعلقه البخاري قال: " تزوج النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله، فصنعت له أم سليم حيسا، فذهبت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع لي فلانا وفلانا، وذهبت فدعوتهم زهاء ثلاثمائة رجل " فذكر الحديث في إشباعهم من ذلك، وقد تقدمت الإشارة إليه في " علامات النبوة " ويجمع بينه وبين رواية حميد بأنه صلى الله عليه وسلم أولم عليه باللحم والخبز، وأرسلت إليه أم سليم الحيس. وفي رواية سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس " لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم حتى امتد النهار " الحديث أخرجه مسلم. قوله: (قلت: يا رسول الله والله ما أجد أحدا، قال: فارفعوا طعامكم) زاد الإسماعيلي من طريق جعفر بن مهران عن عبد الوارث فيه " قال: وزينب جالسة في جانب البيت، قال: وكانت امرأة قد أعطيت جمالا، وبقي في البيت ثلاثة". قوله: (ثم جلسوا يتحدثون) في رواية أبي قلابة: " فجعل يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون". قوله: (وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر) في رواية عبد العزيز " وبقي ثلاثة رهط " وفي رواية حميد " فلما رجع إلى بيته رأى رجلين " ووافقه بيان بن عمرو عن أنس عند الترمذي، وأصله عند المصنف أيضا، ويجمع بين الروايتين بأنهم أول ما قام وخرج من البيت كانوا ثلاثة وفي آخر ما رجع توجه واحد منهم في أثناء ذلك فصاروا اثنين، وهذا أولى من جزم ابن التين بأن إحدى الروايتين وهم، وجوز الكرماني أن يكون التحديث وقع من اثنين منهم فقط والثالث كان ساكتا، فمن ذكر الثلاثة لحظ الأشخاص ومن ذكر الاثنين لحظ سبب العقود، ولم أقف على تسمية أحد منهم. قوله: (فانطلقت فجئت فأخبرني النبي صلى الله عليه وسلم أنهم انطلقوا) هكذا وقع الجزم في هذه الرواية بأنه الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وكذا في رواية الجعد المذكورة، واتفقت رواية عبد العزيز وحميد على أن أنسا كان يشك في ذلك، ولفظ حميد " فلا أدري ألا أخبرته بخروجهما أم أخبر " وفي رواية عبد العزيز عن أنس " فما أدري أخبرته أو أخبر " وهو مبني للمجهول أي أخبر بالوحي، وهذا الشك قريب من شك أنس في تسمية الرجل الذي سأل الدعاء بالاستسقاء، فإن بعض أصحاب أنس جزم عنه بأنه الرجل الأول وبعضهم ذكر أنه سأله عن ذلك فقال: لا أدري كما تقدم في مكانه، وهو محمول على أنه كان يذكره ثم عرض له الشك فكان يشك فيه ثم تذكر فجزم. قوله: (فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله وفي رواية عبد العزيز " حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخلة والأخرى خارجة أرخى الستر بيني وبينه وأنزلت آية الحجاب" الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ آيَةِ الْحِجَابِ لَمَّا أُهْدِيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ صَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا الْقَوْمَ فَقَعَدُوا يَتَحَدَّثُونَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ ثُمَّ يَرْجِعُ وَهُمْ قُعُودٌ يَتَحَدَّثُونَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فَضُرِبَ الْحِجَابُ وَقَامَ الْقَوْمُ الشرح: وعند الترمذي من رواية عمرو بن سعيد عن أنس " فلما أرخى الستر دوني ذكرت ذلك لأبي طلحة فقال: إن كان كما تقول لينزلن فيه قرآن، فنزلت آية الحجاب". الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بُنِيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ فَأُرْسِلْتُ عَلَى الطَّعَامِ دَاعِيًا فَيَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ فَدَعَوْتُ حَتَّى مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُو فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُوهُ قَالَ ارْفَعُوا طَعَامَكُمْ وَبَقِيَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْتِ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَقَالَتْ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فَتَقَرَّى حُجَرَ نِسَائِهِ كُلِّهِنَّ يَقُولُ لَهُنَّ كَمَا يَقُولُ لِعَائِشَةَ وَيَقُلْنَ لَهُ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا ثَلَاثَةٌ مِنْ رَهْطٍ فِي الْبَيْتِ يَتَحَدَّثُونَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدَ الْحَيَاءِ فَخَرَجَ مُنْطَلِقًا نَحْوَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَمَا أَدْرِي آخْبَرْتُهُ أَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا فَرَجَعَ حَتَّى إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي أُسْكُفَّةِ الْبَابِ دَاخِلَةً وَأُخْرَى خَارِجَةً أَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ الشرح: قوله في رواية عبد العزيز (فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم) في رواية حميد " ثم خرج إلى أمهات المؤمنين كما كان يصنع صبيحة بنائه فيسلم عليهن ويسلمن عليه ويدعو لهن ويدعون له " وفي رواية عبد العزيز أنهن قلن له: " كيف وجدت أهلك بارك الله لك". قوله: (فتقرى) بفتح القاف وتشديد الراء بصيغة الفعل الماضي، أي تتبع الحجرات واحدة واحدة، يقال منه قريت الأرض إذا تتبعتها أرضا بعد أرض وناسا بعد ناس. قوله: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة) في رواية حميد " رأى رجلين جرى بهما الحديث فلما رآهما رجع عن بيته، فلما رأى الرجلان نبي الله صلى الله عليه وسلم رجع عن بيته وثبا مسرعين " ومحصل القصة أن الذين حضروا الوليمة جلسوا يتحدثون، واستحيي النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالخروج فتهيأ للقيام ليفطنوا لمراده فيقوموا بقيامه، فلما ألهاهم الحديث عن ذلك قام وخرج فخرجوا بخروجه، إلا الثلاثة الذين لم يفطنوا لذلك لشدة شغل بالهم بما كانوا فيه من الحديث، وفي غضون ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يقوموا من غير مواجهتهم بالأمر بالخروج لشدة حيائه فيطيل الغيبة عنهم بالتشاغل بالسلام على نسائه، وهم في شغل بالهم، وكان أحدهم في أثناء ذلك أفاق من غفلته فخرج وبقي الاثنان، فلما طال ذلك ووصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله فرآهما فرجع فرأياه لما رجع، فحينئذ فطنا فخرجا، فدخل النبي، وأنزلت الآية، فأرخى الستر بينه وبين أنس خادمه أيضا ولم يكن له عهد بذلك. (تنبيه) : ظاهر الرواية الثانية أن الآية نزلت قبل قيام القوم. والأولى وغيرها أنها نزلت بعد، فيجمع بأن المراد أنها نزلت حال قيامهم أي أنزلها الله وقد قاموا. ووقع في رواية الجعد " فرجع فدخل البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي - إلى قوله - من الحق " وفي الحديث من الفوائد مشروعية الحجاب لأمهات المؤمنين، قال عياض: فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. ثم استدل بما في " الموطأ " أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها؛ وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها. انتهى. وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص، وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء لما ذكر له طواف عائشة: أقبل الحجاب أو بعده؟ قال: قد أدركت ذلك بعد الحجاب. وسيأتي في آخر الحديث الذي يليه مزيد بيان لذلك. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَنَى بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَأَشْبَعَ النَّاسَ خُبْزًا وَلَحْمًا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى حُجَرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ صَبِيحَةَ بِنَائِهِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ وَيُسَلِّمْنَ عَلَيْهِ وَيَدْعُو لَهُنَّ وَيَدْعُونَ لَهُ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ رَأَى رَجُلَيْنِ جَرَى بِهِمَا الْحَدِيثُ فَلَمَّا رَآهُمَا رَجَعَ عَنْ بَيْتِهِ فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلَانِ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ عَنْ بَيْتِهِ وَثَبَا مُسْرِعَيْنِ فَمَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ بِخُرُوجِهِمَا أَمْ أُخْبِرَ فَرَجَعَ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ وَأَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعَ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (وقال ابن أبي مريم: أنبأنا يحيى حدثني حميد سمعت أنسا) مراده بذلك أن عنعنة حميد في هذا الحديث غير مؤثرة لأنه ورد عنه التصريح بالسماع لهذا الحديث ومنه، ويحيى المذكور هو ابن أيوب الغافقي المصري، وابن أبي مريم من شيوخ البخاري واسمه سعيد بن الحكم، ووقع في بعض النسخ من رواية أبي ذر " وقال إبراهيم بن أبي مريم " وهو تغيير فاحش، وإنما هو سعيد. الحديث الثالث حديث عائشة " خرجت سودة - أي بنت زمعة أم المؤمنين - بعدما ضرب الحجاب لحاجتها " وقد تقدم في كتاب الطهارة من طريق هشام بن عروة عن أبيه ما يخالف ظاهره رواية الزهري هذه عن عروة. قال الكرماني: فإن قلت: وقع هنا أنه كان بعدما ضرب الحجاب، وتقدم في الوضوء أنه كان قبل الحجاب، فالجواب: لعله وقع مرتين. قلت: بل المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني. والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي، حتى صرح يقوله له عليه الصلاة والسلام: " احجب نساءك " وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلا ولو كن مستترات، فبالغ في ذلك، فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن دفعا للمشقة ورفعا للحرج. وقد اعترض بعض الشراح بأن إيراد الحديث المذكور في الباب ليس مطابقا، بل إيراده في عدم الحجاب أولى. وأجيب بأنه أحال على أصل الحديث كعادته، وكأنه أشار إلى أن الجمع بين الحديثين ممكن، والله أعلم. وقد وقع في رواية مجاهد عن عائشة لنزول آية الحجاب سبب آخر أخرجه النسائي بلفظ " كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيسا في قعب، فمر عمر فدعاه فأكل، فأصاب إصبعه إصبعي فقال: حس - أو أوه - لو أطاع فيكن ما رأتكن عين. فنزل الحجاب " ويمكن الجمع بأن ذلك وقع قبل قصة زينب، فلقربه منها أطلقت نزول الحجاب بهذا السبب، ولا مانع من تعدد الأسباب. وقد أخرج ابن مردويه من حديث ابن عباس قال: " دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فأطال الجلوس، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ليخرج فلم يفعل، فدخل عمر فرأى الكراهية في وجهه فقال للرجل: لعلك آذيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد قمت ثلاثا لكي يتبعني فلم يفعل، فقال له عمر: يا رسول الله لو اتخذت حجابا، فإن نساءك لسن كسائر النساء، وذلك أطهر لقلوبهن، فنزلت آية الحجاب". *3* لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا الشرح: قوله: (باب قوله إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان - إلى قوله - شهيدا) كذا لأبي ذر، وساق غيره الآيتين جميعا ثم ذكر حديث عائشة في قصة أفلح أخي أبي القعيس، وسيأتي شرح الحديث مستوفى في الرضاع. ومطابقته للترجمة من قوله: (لا جناح عليهن في آبائهن إلخ) فإن ذلك من جملة الآيتين، وقوله في الحديث: " ائذني له فإنه عمك " مع قوله في الحديث الآخر " العم صنو الأب " وبهذا يندفع اعتراض من زعم أنه ليس في الحديث مطابقة للترجمة أصلا، وكأن البخاري رمز بإيراد هذا الحديث إلى الرد على من كره للمرأة أن تضع خمارها عند عمها أو خالها، كما أخرجه الطبري من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة والشعبي أنه قيل لهما: لم لم يذكر العم والخال في هذه الآية؟ فقالا: لأنهما ينعتاها لأبنائهما، وكرها لذلك أن تضع خمارها عند عمها أو خالها. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَقُلْتُ لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَخَاهُ أَبَا الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَنَعَكِ أَنْ تَأْذَنِي عَمُّكِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ فَقَالَ ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ قَالَ عُرْوَةُ فَلِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا تُحَرِّمُونَ مِنْ النَّسَبِ الشرح: وحديث عائشة في قصة أفلح يرد عليهما. وهذا من دقائق ما في تراجم البخاري. *3* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ صَلَاةُ اللَّهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الدُّعَاءُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلُّونَ يُبَرِّكُونَ لَنُغْرِيَنَّكَ لَنُسَلِّطَنَّكَ الشرح: قوله: باب قوله: قوله: (قال أبو العالية: صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء) أخرجه ابن أبي حاتم. ومن طريق آدم بن أبي إياس " حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع هو ابن أنس بهذا " وزاد في آخره " له". قوله: (وقال ابن عباس: يصلون يبركون) وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (ويصلون على النبي) قال: يبركون على النبي، أي يدعون له بالبركة، فيوافق قول أبي العالية، لكنه أخص منه. وقد سئلت عن إضافة الصلاة إلى الله دون السلام وأمر المؤمنين بها وبالسلام، فقلت: يحتمل أن يكون السلام له معنيان التحية والانقياد، فأمر به المؤمنون لصحتهما منهم، والله وملائكته لا يجوز منهم الانقياد لم يضف إليهم دفعا للإبهام. والعلم عند الله. قوله: (لنغرينك: لنسلطنك) كذا وقع هذا هنا، ولا تعلق له بالآية وإن كان من جملة السورة، فلعله من الناسخ، وهو قول ابن عباس. ووصله الطبري أيضا من طريق علي بن أبي طلحة عنه بلفظ " لنسلطنك عليهم " وقال أبو عبيدة مثله، وكذا قال السدي. الحديث: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا السَّلَامُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ الشرح: قوله: (سعيد بن يحيي) هو الأموي. قوله: (قيل: يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه) في حديث أبي سعيد الذي بعد هذا " قلنا: يا رسول الله " والمراد بالسلام ما علمهم إياه في التشهد من قولهم: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " والسائل عن ذلك هو كعب بن عجرة نفسه، أخرجه ابن مردويه من طريق الأجلح عن الحكم بن أبي ليلى عنه. وقد وقع السؤال عن ذلك أيضا لبشير بن سعد والد النعمان بن بشير، كذا وقع في حديث أبي مسعود عند مسلم بلفظ " أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك "؟ وروى الترمذي من طريق يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: " لما نزلت قوله: (فكيف الصلاة عليك) ؟ في حديث أبي سعيد " فكيف نصلي عليك "؟ زاد أبو مسعود في روايته " إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا " أخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان بهذه الزيادة. قوله: (قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) في حديث أبي سعيد " على محمد عبدك ورسولك". قوله: (كما صليت على آل إبراهيم) أي تقدمت منك الصلاة على إبراهيم وعلى آل إبراهيم فنسأل منك الصلاة على محمد وعلى آل محمد بطريق الأولى، لأن الذي يثبت للفاضل يثبت للأفضل بطريق الأولى، وبهذا يحصل الانفصال عن الإيراد المشهور من أن شرط التشبيه أن يكون المشبه به أقوى، ومحصل الجواب أن التشبيه ليس من باب إلحاق الكامل بالأكمل بل من باب التهييج ونحوه، أو من بيان حال ما لا يعرف بما يعرف، لأنه فيما يستقبل، والذي يحصل لمحمد صلى الله عليه وسلم من ذلك أقوى وأكمل. وأجابوا بجواب آخر على تقدير أنه من باب الإلحاق. وحاصل الجواب أن التشبيه وقع للمجموع بالمجموع، لأن مجموع آل إبراهيم أفضل من مجموع آل محمد، لأن في آل إبراهيم الأنبياء بخلاف آل محمد. ويعكر على هذا الجواب التفصيل الواقع في غالب طرق الحديث. وقيل في الجواب أيضا: إن ذلك كان قبل أن يعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه أفضل من إبراهيم وغيره من الأنبياء، وهو مثل ما وقع عند مسلم عن أنس " أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية، قال ذاك إبراهيم". قوله: (على آل إبراهيم) كذا فيه في الموضعين، وسأذكر تحرير ذلك في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى. وفي آخر حديث أبي سعيد المذكور " والسلام كما قد علمتم". قوله في حديث أبي سعيد (قال أبو صالح عن الليث) يعني بالإسناد المذكور قبل. قوله: (على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم) يعني أن عبد الله بن يوسف لم يذكر آل إبراهيم عن الليث وذكرها أبو صالح عنه في الحديث المذكور، وهكذا أخرجه أبو نعيم من طريق يحيي بن بكير عن الليث. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا التَّسْلِيمُ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ وَقَالَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ الشرح: قوله: (حدثنا ابن أبي حازم) هو عبد العزيز بن سلمة بن دينار. قوله: (والدراوردي) هو عبد العزيز بن محمد. قوله: (عن يزيد) هو ابن عبد الله بن شداد بن الهاد شيخ الليث فيه، ومراده أنهما روياه بإسناد الليث، فذكر آل إبراهيم كما ذكره أبو صالح عن الليث. واستدل بهذا الحديث على جواز الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم من أجل قوله فيه: " وعلى آل محمد " وأجاب من منع بأن الجواز مقيد بما إذا وقع تبعا، والمنع إذا وقع مستقلا، والحجة فيه أنه صار شعارا للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يشاركه غيره فيه، فلا يقال قال أبو بكر صلى الله عليه وسلم: وإن كان معناه صحيحا، ويقال: صلى الله على النبي وعلى صديقه أو خليفته ونحو ذلك. وقريب من هذا أنه لا يقال: قال محمد عز وجل وإن كان معناه صحيحا، لأن هذا الثناء صار شعار الله سبحانه لا يشاركه غيره فيه. ولا حجة لمن أجاز ذلك منفردا فيما وقع من قوله تعالى: (وصل عليهم) ولا في قوله: " اللهم صل على آل أبي أوفى " ولا في قول امرأة جابر " صل علي وعلى زوجي، فقال: اللهم صل عليهما " فإن ذلك كله وقع من النبي صلى الله عليه وسلم. ولصاحب الحق أن يتفضل من حقه بما شاء، وليس لغيره أن يتصرف إلا بإذنه، ولم يثبت عنه إذن في ذلك. ويقوي المنع بأن الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم صار شعارا لأهل الأهواء يصلون على من يعظمونه من أهل البيت وغيرهم. وهل المنع في ذلك حرام أو مكروه أو خلاف الأولى؟ حكى الأوجه الثلاثة النووي في " الأذكار " وصحح الثاني. وقد روى إسماعيل بن إسحاق في كتاب " أحكام القرآن " له بإسناد حسن عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب " أما بعد فإن ناسا من الناس التمسوا عمل الدنيا بعمل الآخرة، وإن ناسا من القصاص أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عدل الصلاة على النبي، فإذا جاءك كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين، ودعاؤهم للمسلمين، ويدعوا ما سوى ذلك " ثم أخرج عن ابن عباس بإسناد صحيح قال: " لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن للمسلمين والمسلمات الاستغفار " وذكر أبو ذر أن الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كان في السنة الثانية من الهجرة، وقيل من ليلة الإسراء. *3* الشرح: قوله: باب قلت: وما في الصحيح أصح من هذا، لكن لا مانع أن يكون للشيء سببان فأكثر كما تقدم تقريره غير مرة. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ وَخِلَاسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا الشرح: قوله: باب قلت: وما في الصحيح أصح من هذا، لكن لا مانع أن يكون للشيء سببان فأكثر كما تقدم تقريره غير مرة. يُقَالُ مُعَاجِزِينَ مُسَابِقِينَ بِمُعْجِزِينَ بِفَائِتِينَ مُعَاجِزِيَّ مُسَابِقِيَّ سَبَقُوا فَاتُوا لَا يُعْجِزُونَ لَا يَفُوتُونَ يَسْبِقُونَا يُعْجِزُونَا وَقَوْلُهُ بِمُعْجِزِينَ بِفَائِتِينَ وَمَعْنَى مُعَاجِزِينَ مُغَالِبِينَ يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُظْهِرَ عَجْزَ صَاحِبِهِ مِعْشَارٌ عُشْرٌ يُقَالُ الْأُكُلُ الثَّمَرُ بَاعِدْ وَبَعِّدْ وَاحِدٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَعْزُبُ لَا يَغِيبُ سَيْلَ الْعَرِمِ السُّدُّ مَاءٌ أَحْمَرُ أَرْسَلَهُ اللَّهُ فِي السُّدِّ فَشَقَّهُ وَهَدَمَهُ وَحَفَرَ الْوَادِيَ فَارْتَفَعَتَا عَنْ الْجَنْبَيْنِ وَغَابَ عَنْهُمَا الْمَاءُ فَيَبِسَتَا وَلَمْ يَكُنْ الْمَاءُ الْأَحْمَرُ مِنْ السُّدِّ وَلَكِنْ كَانَ عَذَابًا أَرْسَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ الْعَرِمُ الْمُسَنَّاةُ بِلَحْنِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَقَالَ غَيْرُهُ الْعَرِمُ الْوَادِي السَّابِغَاتُ الدُّرُوعُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ يُجَازَى يُعَاقَبُ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ بِطَاعَةِ اللَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى وَاحِدٌ وَاثْنَيْنِ التَّنَاوُشُ الرَّدُّ مِنْ الْآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ مِنْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ زَهْرَةٍ بِأَشْيَاعِهِمْ بِأَمْثَالِهِمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَالْجَوَابِ كَالْجَوْبَةِ مِنْ الْأَرْضِ الْخَمْطُ الْأَرَاكُ وَالْأَثَلُ الطَّرْفَاءُ الْعَرِمُ الشَّدِيدُ الشرح: قوله. (سورة سبأ - بسم الله الرحمن الرحيم) سقط لفظ " سورة والبسملة " لغير أبي ذر. وهذه السورة سميت بقوله فيها: (لقد كان لسبأ في مساكنهم) الآية، قال ابن إسحاق وغيره: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ووقع عند الترمذي وحسنه من حديث فروة بن مسيك قال: " أنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل: يا رسول الله وما سبأ، أرض أو امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتيامن ستة وتشاءم أربعة " الحديث. قال: " وفي الباب عن ابن عباس". قلت. حديث ابن عباس وفروة صححهما الحاكم. وأخرج ابن أبي حاتم في حديث فروة زيادة أنه قال: " يا رسول الله إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية، وإني أخشى أن يرتدوا فأقاتلهم، قال: ما أمرت فيهم بشيء، فنزلت: (لقد كان لسبأ في مساكنهم) الآيات. فقال له رجل: يا رسول الله، وما سبأ " فذكره. وأخرج ابن عبد البر في " الأنساب " له شاهدا من حديث تميم الداري. وأصله قصة سبأ. وقد ذكرها ابن إسحاق مطولة في أول السيرة النبوية. وأخرج بعضها ابن أبي حاتم من طريق حبيب بن الشهيد عن عكرمة، وأخرجها أيضا من طريق السدي مطولا. قوله: (معاجزين مسابقين، بمعجزين بفائتين، معاجزي مسابقي، سبقوا فاتوا، لا يعجزون لا يفوتون، يسبقونا يعجزونا. قوله: بمعجزين بفائتين ومعنى معاجزين مغالبين يريد كل واحد منهما أن يظهر عجز صاحبه) أما قوله معاجزين مسابقين فقال أبو عبيدة في قوله: (والذين سنوا في آياتنا معاجزين) أي مسابقين، يقال: ما أنت بمعجزي أي سابقي. وهذا اللفظ أي " معاجزين " على إحدى القراءتين، وهي قراءة الأكثر في موضعين من هذه السورة وفي سورة الحج، والقراءة الأخرى لابن كثير وأبي عمرو " معجزين " بالتشديد في المواضع الثلاثة وهي بمعناها، وقيل: معنى معاجزين معاندين ومغالبين، ومعنى معجزين ناسبين غيرهم إلى العجز. وأما قوله: " بمعجزين " فلعله أشار إلى قوله في سورة العنكبوت وأما قوله: " معاجزي مسابقي " فسقط من رواية الأصيلي وكريمة وثبت عندهما " معاجزين مغالبين " وتكرر لهما بعد، وقد ظهر أنه بقية كلام أبي عبيدة كما قدمته. وأما قوله: " سبقوا إلخ " فقال أبو عبيدة في سورة الأنفال في قوله: (ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا) مجازه فاتوا وأما قوله: " يسبقونا " فأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: وأما قوله: " بمعجزين بفائتين " فكذا وقع مكررا في رواية أبي ذر وحده، وسقط للباقين. وأما قوله: " معاجزين مغالبين إلخ. فقال الفراء: معناه معاندين. وذكر ابن أبي حاتم من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: " معاجزين " قال: مراغمين. وكلها بمعنى. قوله: (معشار: عشر) قال أبو عبيدة في قوله تعالى: وقال الفراء: المعنى وما بلغ أهل مكة معشار الذين أهلكناهم من قبلهم من القوة والجسم والولد والعدد، والمعشار العشر. قوله: (يقال الأكل الثمرة) قال أبو عبيدة في قوله تعالى: قوله: (باعد وبعد واحد) قال أبو عبيدة في قوله تعالى: قلت: قراءة باعد للجمهور، وقرأه " بعد " أبو عمرو وابن كثير وهشام. قوله: (وقال مجاهد: لا يعزب لا يغيب) وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه بهذا. قوله: (سيل العرم السد) كذا للأكثر بضم المهملة وتشديد الدال، ولأبي ذر عن الحموي الشديد بمعجمة وزن عظيم. قوله: (فشقه) كذا للأكثر بمعجمة قبل القاف الثقيلة، وذكر عياض أن في رواية أبي ذر " فبثقه " بموحدة ثم مثلثة قبل القاف الخفيفة، قال: وهو الوجه، تقول بثقت النهر إذا كسرته لتصرفه عن مجراه. قوله: (فارتفعتا عن الجنبتين) كذا للأكثر بفتح الجيم والنون الخفيفة بعدها موحدة ثم مثناة فوقانية ثم تحتانية ثم نون، ولأبي ذر عن الحموي بتشديد النون بغير موحدة تثنيه جنة. واستشكل هذا الترتيب لأن السياق يقتضي أن يقول: ارتفع الماء على الجنتين، وارتفعت الجنتان عن الماء. وأجيب بأن المراد من الارتفاع الزوال أي ارتفع اسم الجنة منهما، فالتقدير: فارتفعت الجنتان عن كونهما جنتين. وتسمية ما بدلوا به جنتين على سبيل المشاكلة. قوله: (ولم يكن الماء الأحمر من السد) كذا للأكثر بضم المهملة وتشديد الدال، وللمستملي من السيل، وعند الإسماعيلي من السيول. وهذا الأثر عن مجاهد وصله الفريابي أيضا وقال " السد " في الموضعين فقال: " فشقه " بالمعجمة والقاف الثقيلة. وقال: " على الجنتين " تثنية جنة كما للأكثر في المواضع كلها. قوله: (وقال عمرو بن شرحبيل؛ العرم المسناة بلحن أهل اليمن. وقال غيره. العرم الوادي) أما قول عمرو فوصله سعيد بن منصور عن شريك عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة وهو عمرو بن شرحبيل فذكره سواء، واللحن اللغة، والمسناة بضم الميم وفتح المهملة وتشديد النون، وضبط في أصل الأصيلي، بفتح الميم وسكون المهملة، قال ابن التين: المراد بها ما يبنى في عرض الوادي ليرتفع السيل ويفيض على الأرض " وكأنه أخذ من عرامة الماء وهو ذهابه كل مذهب". وقال الفراء: العرم المسناة وهي مسناة كانت تحبس الماء على ثلاثة أبواب منها، فيسيبون من ذلك الماء من الباب الأول ثم الثاني ثم الآخر، ولا ينفذ حتى يرجع الماء السنة المقبلة، وكانوا أنعم قوم، فلما أعرضوا عن تصديق الرسل وكفروا بثق الله عليهم تلك المسناة، فغرقت أرضهم ودقت الرمل بيوتهم ومزقوا كل ممزق، حنى صار تمزيقهم عند العرب مثلا يقولون: " تفرقوا أيدي سبأ". وأما قول غيره: فأخرجه ابن أبي حاتم من طريق عثمان بن عطاء عن أبيه قال: العرم اسم الوادي، وقيل: العرم اسم الجرذ الذي خرب السد، وقيل: هو صفة السيل مأخوذ من العرامة، وقيل: اسم المطر الكثير. وقال أبو حاتم: هو جمع لا واحد له من لفظه. وقال أبو عبيدة: سيل العرم واحدتها عرمة، وهو بناء يحبس به الماء يبنى فيشرف به على الماء في وسط الأرض، ويترك فيه سبيل للسفينة، فتلك العرمات واحدتها عرمة. قوله: (السابغات الدروع) قال أبو عبيدة في قوله: قوله: (وقال مجاهد: يجازي يعاقب) وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عنه، ومن طريق طاوس قال: هو المناقشة في الحساب، ومن نوقش الحساب عذب، وهو الكافر لا يغفر له. (تنبيه) : قيل: إن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله من جهة الحصر في الكفر، فمفهومه أن غير الكفر بخلاف ذلك. ومثله قوله: (أعظكم بواحدة: بطاعة الله، مثنى وفرادى واحد واثنين) وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا. قوله: (التناوش: الرد من الآخرة إلى الدنيا) وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ (وأنى لهما التناوش) قال: رد من مكان بعيد من الآخرة إلى الدنيا. وعند الحاكم من طريق التميمي عن ابن عباس في قوله: قوله: (وبين ما يشتهون: من مال أو ولد أو زهرة) وصله الفريابي من طريق مجاهد مثله، ولم يقل. " أو زهرة". قوله: (بأشياعهم: بأمثالهم) وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: كما فعل بأشياعهم من قبل قال الكفار من قبلهم. قوله: (وقال ابن عباس: كالجوابي كالجوبة من الأرض) تقدم هذا في أحاديث الأنبياء، قيل: الجوابي في اللغة جمع جابية وهو الحوض الذي يجبى فيه الشيء أي يجمع، وأما الجوبة من الأرض فهي الموضع المطمئن فلا يستقيم تفسير الجوابي بها، وأجيب باحتمال أن يكون فسر الجابية بالجوبة ولم يرد أن اشتقاقهما واحد. قوله: (الخمط الأراك، والأثل الطرفاء؛ العرم الشديد) سقط الكلام الأخير للنسفي، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بهذا كله مفرقا. *3* الشرح: قوله: (باب حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير) . الحديث: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوْ الْكَاهِنِ فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ فَيُقَالُ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سَمِعَ مِنْ السَّمَاءِ الشرح: قوله: (حدثنا عمرو) هو ابن دينار. قوله: (إذا قضى الله الأمر في السماء) في حديث النواس بن سمعان عند الطبراني مرفوعا " إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع أهل السماء بذلك صعقوا وخروا سجدا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به على الملائكة، كلما مر بسماء سأله أهله ماذا قال ربنا؟ قال: الحق، فينتهي به حيث أمر". قوله: (ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا) بفتحتين من الخضوع. وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه وهو مصدر بمعنى خاضعين. قوله: (كأنه) أي القول المسموع (سلسلة على صفوان) هو مثل قوله في بدء الوحي: " صلصلة كصلصلة الجرس " وهو صوت الملك بالوحي، وقد روى ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه " إذا تكلم الله بالوحي يسمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون، ويرون أنه من أمر الساعة. وقرأ: حتى إذا فزع الآية " وأصله عند أبي داود وغيره، وعلقه المصنف موقوفا، ويأتي في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. قال الخطابي: الصلصلة صوت الحديد إذا تحرك وتداخل، وكأن الرواية وقعت له بالصاد، وأراد أن التشبيه في الموضعين بمعنى واحد، فالذي في بدء الوحي هذا والذي هنا جر السلسلة من الحديد إلى الصفوان الذي هو الحجر الأملس يكون الصوت الناشئ عنهما سواء. قوله: (على صفوان) زاد في سورة الحجر عن علي بن عبد الله " قال غيره: - يعني غير سفيان - ينفذهم ذلك " في حديث ابن عباس عند ابن مردويه من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه " فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا " وعند مسلم والترمذي من طريق علي بن الحسين بن علي عن ابن عباس عن رجال من الأنصار أنهم كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فرمي بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون لهذا إذا رمي به في الجاهلية؟ قالوا: كنا نقول مات عظيم أو يولد عظيم، فقال: إنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح سماء الدنيا، ثم يقولون لحملة العرش: ماذا قال ربكم " الحديث. وليس عند الترمذي عن رجال من الأنصار، وسيأتي مزيد فيه في كتاب التوحيد. قوله: (ومسترقو السمع) في رواية علي عند أبي ذر " ومسترق " بالإفراد وهو فصيح. قوله: (هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان) أي ابن عيينة (بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه) أي فرق. وفي رواية علي " ووصف سفيان بيده ففرج بين أصابع يده اليمنى نصبها بعضها فوق بعض " وفي حديث ابن عباس عند ابن مردويه " كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يسمعون منه الوحي " يعني يلقيها، زاد علي عن سفيان " حتى ينتهي إلى الأرض فيلقى". قوله: (على لسان الساحر أو الكاهن) في رواية الجرجاني " على لسان الآخر " بدل الساحر وهو تصحيف. وفي رواية علي " الساحر والكاهن " وكذا قال سعيد بن منصور عن سفيان. قوله: (فربما أدرك الشهاب إلخ) يقتضي أن الأمر في ذلك يقع على حد سواء، والحديث الآخر يقتضي أن الذي يسلم منهم قليل بالنسبة إلى من يدركه الشهاب. ووقع في رواية سعيد بن منصور عن سفيان في هذا الحديث " فيرمي هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى يلقى على فم ساحر أو كاهن". قوله: (فيكذب معها مائة كذبة، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء) زاد علي بن عبد الله عن سفيان كما تقدم في تفسير الحجر " فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقا الكلمة التي سمعت من السماء " وفي حديث ابن عباس المذكور " فيقول يكون العام كذا وكذا فيسمعه الجن فيخبرون به الكهنة فتخبر الكهنة الناس فيجدونه " وسيأتي بقية شرح هذا القدر في أواخر كتاب الطب إن شاء الله تعالى. (تنبيه) : وقع في تفسير سورة الحجر في آخر هذا الحديث عن علي بن عبد الله " قلت لسفيان: إن إنسانا روى عنك عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة أنه قرأ فرغ - بضم الفاء وبالراء المهملة الثقيلة وبالغين المعجمة - فقال سفيان: هكذا قرأ عمرو - يعني ابن دينار - فلا أدري سمعه هكذا أم لا " وهذه القراءة رويت أيضا عن الحسن وقتادة ومجاهد، والقراءة المشهورة بالزاي والعين المهملة، وقرأها ابن عامر مبنيا للفاعل ومعناه بالزاي والمهملة أدهش الفزع عنهم، ومعنى التي بالراء والغين المعجمة ذهب عن قلوبهم ما حل فيها " فقال سفيان: هكذا قرأ عمرو فلا أدري سمعه أم لا. قال سفيان: وهي قراءتنا " قال الكرماني: فإن قيل كيف جازت القراءة إذا لم تكن مسموعة فالجواب لعل مذهبه جواز القراءة بدون السماع إذا كان المعنى صحيحا. قلت: هذا وإن كان محتملا لكن إذا وجد احتمال غيره فهو أولى، وذلك محمل قول سفيان: " لا أدري سمعه أم لا " على أن مراده سمعه من عكرمة الذي حدثه بالحديث لا أنه شك في أنه هل سمعه مطلقا، فالظن به أن لا يكتفي في نقل القرآن بالأخذ من الصحف بغير سماع. وأما قول سفيان: " وهي قراءتنا " فمعناه أنها وافقت ما كان يختار من القراءة به؛ فيجوز أن ينسب إليه كما نسب لغيره.
|